الاغتراب وإنقاذ لبنان

الدكتور زياد الصَّائغ
في ٦ تشرين الثاني ٢٠٢٥
ليس الاغتراب اللبناني ظاهرة عابرة في التاريخ، بل هو امتدادٌ للبنان الآخر في العالم، لبنان الحضور والقدرة والرّسالة. في كلّ موجة من موجات الهجرة التي عصفت باللبنانيين/ات، كان هناك ألمٌ يترافق مع إصرارٍ على النجاح. واللبناني/ة، حيثما حلّ، حمل معه قيم المبادرة، والعلم، والمثابرة، ونسج من غربته انتماءً متجدداً إلى وطنٍ صغير في الجغرافيا كبير في المعنى. اليوم، وفي زمن الانهيار اللبناني الشامل، السّيادي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومع فُرصة إنقاذيّة فريدة، يُطرح سؤال جوهريّ. هل يمكن للاغتراب اللبناني أن يُنقذ لبنان؟ وكيف يمكن تحويل الحنين إلى مشروع، والذاكرة إلى قوّة دفع نحو السيادة والإصلاح؟
لا يمكن قراءة دور الاغتراب بمعزل عن التحولات الجيو-سياسية في الشرق الأوسط. العالم العربي يعيش مرحلة إعادة تشكّلٍ في خرائط النفوذ والمصالح، حيث تتراجع الأيديولوجيات التقليدية لمصلحة براغماتيّة جديدة تتقدّم فيها مقاربات التّنمية والسّيادة المتوازنة. لبنان، في هذا السياق، يقف أمام فرصة أخيرة لإعادة بناء ذاته على قاعدة حياده الإيجابي، ومواطنيّته الجامعة، ودستوره الذي جرى تفريغه من معناه السيادي والميثاقي. هذه الفرصة تحتاج إلى طاقة تتجاوز الداخل المشلول، إلى طاقة الاغتراب الذي يشكّل اليوم شبكة تأثيرٍ عابرة للقارات، قادرة على صناعة رأيٍ عامٍّ مؤثرٍ في مراكز القرار العالميّة.
على المستوى السياسي والدبلوماسي، يشكّل الاغتراب رافعةً أكيدة للسيادة الوطنية وذلك في إطارٍ مؤسسيّ عابرٍ للطوائف والولاءات. فالمغتربون/ات حاضرون/ات في برلمانات العالم، وفي مراكز القرار، وفي منظماتٍ دولية تستطيع أن تنقل صوت لبنان الحقيقي، لا صوت السلطة المنهارة. ما يحتاجه لبنان هو لوبي اغترابي سيادي إصلاحي يتحدث بلغة المصالح الوطنية، لا بلغة الاصطفافات المذهبية، فيتحوّل الاغتراب إلى دبلوماسية شعبية مكمّلة للدبلوماسية الرسمية، لا بديلًا عنها. كما أن الجاليات اللبنانية في أوروبا وأميركا وأفريقيا وأستراليا تمتلك قدرةً على التأثير في سياسات الدول المضيفة تجاه لبنان من خلال بناء شراكاتٍ فكرية، واقتصادية، وثقافية قائمة على المصداقية والمبادرة.
إقتصادياً، إن إنقاذ لبنان لا يمكن أن يتمّ من خلال التحويلات الفردية التي تخفّف من ألم العائلات فحسب، بل عبر استراتيجيا استثمارٍ وطنيّة تشاركية بين المغتربين/ات والدولة، حين تُستعاد الدولة وتُرمَّم. فالمغترب اللبناني، بخبرته وموارده، قادر على أن يقود نهضة اقتصادية إذا توفرت بيئة الحوكمة الرشيدة والشفافية. المطلوب اليوم هو أن يتحوّل الاغتراب بنظر المنظومة الدَّولتيَّة من مصدر تمويلٍ استهلاكي إلى شريكٍ في التخطيط الاقتصادي والتنمية الإنتاجية، في القطاعات الزراعية والصناعية والتكنولوجية، وأن يُعاد بناء الثقة بين الداخل والخارج على أساسٍ من الشفافية والمساءلة.
إجتماعياً وثقافياً، يحمل المغترب/ة اللبناني ثروةً رمزيَّة. صورة لبنان الحرّ المتعدد، لبنان الفكر، والجامعة، والمسرح، والموسيقى، والمطبعة. إنَّ الدفاع عن هذه الصورة هو معركة وجودية في وجه من يريد اختزال لبنان في منطق المزرعة والطائفة والسلاح. حين ينخرط المغتربون/ات في شبكاتٍ فكرية، وإعلامية، وثقافية، تعيد تعريف لبنان في وعي العالم، فإنهم يحمون المعنى الذي تأسّس عليه الكيان رسالة التعدد والحرية والعيش المشترك. لعلّ بناء جسور بين الجامعات اللبنانية والجامعات العالمية، وتنظيم منتديات الفكر والمواطنة، وإحياء اللغة اللبنانية الحضارية، هي بعض ملامح هذا الدور الذي يربط بين الاغتراب والهوية.
لا يمكن أن يكون إنقاذ لبنان من الخارج فقط، لكن من الخارج يمكن أن يبدأ الضغط من أجل الداخل. الإغتراب، بما يملك من استقلاليةٍ عن شبكات الزبائنية التي دمّرت الدولة، يستطيع أن يشكّل بيئة حاضنة لخطابٍ جديد، يطالب بتطبيق الدستور كاملاً واستِعادة السِّيادة كامِلة، لا تجزئته على قياس مصالح المنظومة. يستطيع أيضاً أن يساهم في خلق ميزان قوى وطني ودولي يفرض على الداخل السير نحو الإصلاح البنيوي في القضاء، والإدارة، والمالية العامة، وفي بناء عقدٍ اجتماعي جديد أساسه المواطن لا الزعيم.
في السّياق الجيو-سياسي الراهن، حين تتغيّر خرائط التَّحالفات وتتصاعد أهمية الاستقرار والتنمية في مقاربات الدول الكبرى، تبدو فرصة لبنان التاريخية قائمة إذا أحسن الاغتراب إدارتها. العالم لم يعد يحتمل الدول الفاشلة التي تُصدّر الفوضى. من هنا، يمكن للبنانيين/ات المنتشرين/ات في العالم أن يكونوا الجسر الذي يربط بين لبنان الممكن ولبنان الغائب، بين الإرادة الدولية الداعمة للدولة وبين مجتمعٍ مدنيٍّ يريدها دولة مواطنة سيّدة عادلة حاضنة لتنوعها.
الاغتراب ليس نوستالجيا، بل قوّة سياسية وثقافية وأخلاقية. إذا تنظّم وصاغ مشروعاً سيادياً إصلاحياً واضحاً، فإنه يستطيع أن يطلق ديناميةً داخلية تُخرج لبنان من أسر التّبعية واللّاسيادة والفساد إلى أفق الدولة. لبنان لا يُنقذ بالبيانات ولا بالعواطف، بل بعملٍ منهجيّ متراكم يربط بين الداخل والخارج. حين تتوحّد الإرادة حول هدفٍ واحد. بناء الدولة، وحينها يصبح الاغتراب ليس فقط جزءاً من الحلّ، بل المحرّك الأساس للفرصة الأخيرة التي قد لا تتكرّر.
