
د. زياد الصَّائغ
١٩ كانون الاول ٢٠٢٥
لبنان بين الاغتراب… والغربة عن الدّستور!
زياد الصَّائغ
لم يَكُنِ الاغترابُ اللّبنانيُّ يومًا هامشًا في تاريخِ الدَّولةِ اللّبنانيّة، ولا مُلحَقًا ظرفيًّا في مسارِها السِّياسيِّ، بل كان ولا يزالُ رافعةً وطنيَّةً، واقتصاديَّةً، وثقافيّةً، ودبلوماسيَّةً، وحاملًا لِصورةِ لُبنانَ في العالَمِ، وشريكًا أساسيًّا في بناءِ الفُرَصِ وحِمايةِ الكِيانِ. فمنذ نشأة الكيان، شكّل الاغترابُ امتدادًا طبيعيًّا للمجتمعِ اللّبنانيِّ، ورافدًا للاستقرارِ الاقتصاديِّ، ونافذةً للتواصلِ مع العالمِ الحرّ. غير أنّ المُفارقةَ القاتلةَ اليومَ تكمنُ في أنّ هذا الاغترابَ، الّذي ظلَّ أكثرَ التزامًا بالدُّستورِ من أهلِ السُّلطةِ في الدَّاخلِ، يُواجِهُ بعضًا من منظومةً حاكمةً غريبةً عن الدُّستورِ، ومُتواطئةً على تهميشِه، وضربِ دورهِ، ومُصادرةِ حقِّه في التَّأثيرِ السِّياديِّ.
إنّ الضَّرورةَ الوطنيَّةَ اليومَ تفرضُ أن يتحوَّلَ الاغترابُ إلى كتلةٍ ضاغطةٍ منظَّمةٍ، لا تكتفي برفعِ الصَّوتِ أو الاكتفاءِ بدورٍ رمزيٍّ أو موسميٍّ، بل تُحسِنُ استخدامَ أدواتِ التَّأثيرِ الدُّستوريِّ والسِّياسيِّ والقانوني والدبلوماسي، لفرضِ تطبيقِ الدُّستورِ اللّبنانيِّ واحترامِ القراراتِ الدُّوليَّةِ ذاتِ الصِّلةِ بسِيادةِ لُبنانَ ووَحدانيَّةِ قرارِهِ. فغُربةُ بعض المنظومةِ الحاكمةِ عن الدُّستورِ لم تَعُد خافيةً، بل باتت سلوكًا مُمنهجًا، يتجلّى بوضوحٍ في مصادرة مجلسِ النُّوّابِ اللّبنانيِّ، حيثُ تُخالَفُ نصوصُ الدُّستورِ والنِّظامِ الدَّاخليِّ، وتُدارُ الجلساتُ والقراراتُ باستنسابيّة، ما يضربِ الاغترابِ، ويفرّغ مشاركتِه الوطنيّة السّياسيّة من مضمونِها السِّياديِّ.
في هذا السّياق، ليسَ استهدافُ الاغترابِ تفصيلًا إجرائيًّا أو تقنيًّا، بل هو خيارٌ سِياسيٌّ واعٍ يهدفُ إلى تحييدِ القوّةِ اللّبنانيَّةِ الأكثرِ تحرُّرًا من الزَّبائنيَّةِ والطَّائفيَّةِ وسَطوة السّلاح غير الشّرعيّ، والأكثرِ قدرةً على مساءلةِ السُّلطةِ وكسرِ احتكارِها للتمثيلِ. فالمغتربُ، حين يُمنَعُ من الاقتراعِ الكاملِ، أو يُحاصَرُ بقوانينَ مُشوَّهةٍ، أو يُفصَلُ عن دوائرِه الطَّبيعيَّةِ، يُقصَدُ بذلكَ إضعافُ صوتهِ، لا تنظيمُهُ. وهنا تكمُنُ الخطيئةُ الدُّستوريَّةُ الكبرى، لأنّ الدُّستورَ لا يُجزِّئُ المواطنةَ، ولا يَقبلُ بتفاوتِ الحقوقِ بين مُقيمٍ/ة ومُغتربٍ/ة، ولا يُجيزُ مصادرةَ الإرادةِ الشعبيَّةِ تحت أيّ ذريعةٍ. المادّتان 112 و 122 من قانون الانتخابات مخالفتان دستوريّتان بامتياز.
إنّ لهذا المسارِ نتائجُ خطيرةٌ، تمسُّ التزامَ المغتربينَ/ات بمساندةِ لُبنانَ في أوقاتِ الشِّدَّةِ. فكيفَ يُطلَبُ من الاغترابِ أن يُموِّلَ، ويُساندَ، ويضغطَ خارجيًّا، فيما تُصادَرُ حقوقُه الدُّستوريَّةُ وطنيًّا؟ وكيفَ يُقنِعُ نفسَهُ بالاستمرارِ في الرِّهانِ على دولةٍ لا تعترِفُ به شريكًا كاملَ الصِّلاحيّاتِ؟ إنّ ضربَ الاغترابِ لا ينعكسُ فقط على المشاركةِ السِّياسيَّةِ، بل يُهدِّدُ أحدَ أعمدةِ الصُّمودِ الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ للبنانَ، ويُفاقِمُ العُزلةَ، ويُسرِّعُ الانهيارَ الشَّاملَ.
أمامَ هذا المأزقِ، لا يكفي التَّشخيصُ، بل لا بُدَّ من مخرجٍ سِياسيٍّ منظَّمٍ. والمخرجُ يبدأ بتكوينِ كتلةِ تحالفاتٍ سِياديَّةٍ إصلاحيَّةٍ، عابرةٍ للطَّوائفِ والمناطقِ، تجمعُ بين قُوى التَّغييرِ في الدَّاخلِ، وقوّةِ الاغترابِ في الخارجِ، على برنامجٍ واضحٍ. إستعادةُ الدَّولةِ وبناؤها. تطبيقُ الدُّستورِ. إستقلالُ القضاءِ. حصرُ السِّلاحِ بيدِ الشَّرعيَّةِ. هذه الكتلةُ قادرةٌ، إذا مُؤْسِسَ تنظيمُها، على قلبِ المشهدِ النِّيابيِّ، وفرضِ معادلةٍ جديدةٍ تُعيدُ الاعتبارَ للتمثيلِ الصَّحيحِ، وتكسرُ حلقةَ التَّعطيلِ المُزمنِ.
إنّ المعركةَ اليومَ ليست بين اغترابٍ وداخلٍ، بل بين مواطنةٍ ودولةٍ من جهةٍ، ومنظومةِ لادولةٍ من جهةٍ أُخرى. والاغترابُ، بما يملكُه من حُريَّةِ قرارٍ، واتِّساعِ أُفُقٍ، وشبكاتِ علاقاتٍ دوليَّةٍ، مدعوٌّ إلى أن يكونَ في صُلبِ هذه المعركةِ، لا شاهِدًا عليها. فلبنانُ لا ينهضُ إلّا حين يلتقي دستورُه مع مواطنيهِ/اتِه، في الدَّاخلِ والاغترابِ، على حدٍّ سواءٍ.