
د. زياد الصَّائغ
٢٦ كانون الاول ٢٠٢٥
لبنانُ 2026: بناءُ دولةِ المواطَنةِ الدُّستوريَّةِ!
يُواجِهُ لُبنانُ في عامِ 2026 واقِعًا سِياديًّا-إصلاحيًّا مرتبِكًا تُختَزَلُ فيه أزماتُ السِّيادَةِ والإصلاحِ من خِلال هشاشة الدَّولةِ عن أداءِ وَظيفتِها الدُّستوريَّةِ الأساسيَّةِ. هذا الواقِعُ ليس نتاجَ غيابِ الرُّؤى، بل نتيجةَ اختلالٍ بِنيويٍّ في مِيزانِ السُّلطةِ، ومعطوبيَّة في شَرعيَّةِ التَّمثيلِ، وتَعليقٍ مُزمنٍ لآليَّاتِ المُساءَلَةِ. في هذا الإطارِ، تَتقدَّمُ الانتخاباتُ النيابيَّةُ 2026 كأداةِ سياساتٍ عامَّةٍ مَحوريَّةٍ لإعادةِ ضَبْطِ النِّظامِ السِّياسيِّ، لا بوصفِها استحقاقًا إجرائيًّا، بل كمدخَلٍ لإعادةِ تأسيسِ الشَّرعيَّةِ وتفعيلِ مَسارِ التَّكامُلِ بينَ السِّيادَةِ الإصلاحيَّةِ والإصلاحِ السِّياديِّ.
يَكشِفُ التَّشخيصُ الواقِعيُّ أنَّ الإصلاحاتِ الماليَّةَ والاقتصاديَّةَ والاجتماعيَّةَ تَعطَّلَت ليس لغيابِ القوانينِ فحسب، بل لغيابِ فاعِليَّة نيابيَّةٍ قادِرَةٍ على التَّشريعِ والمُراقَبَةِ والمُساءَلَةِ. في المُقابِلِ، تباعَدَت السرديَّة السِّياديّة عن التَّحوُّلِ إلى سياساتٍ نافِذَةٍ بسببِ انفصالِها عن بُنى الإصلاحِ المؤسَّساتيِّ. هذا الانفصالُ أنتَجَ معادلةً مَشلولةً. إصلاحٌ بلا سِيادَةٍ يَفقِدُ القدرةَ على التَّنفيذِ، وسِيادَةٌ بلا إصلاحٍ تَفقِدُ المَصداقيَّةَ والاستدامَةَ.
إنطلاقًا من ذلك، تُشكِّلُ الانتخاباتُ النيابيَّة المُقبِلَة أداةَ تصويبٍ لِهذا الخَلَلِ البِنيويِّ، إذ إنَّها المَسارُ الدُّستوريُّ الوحيدُ المُتاحُ لإعادةِ إنتاجِ سُلطةٍ تُعبِّرُ عن إرادةٍ شَعبيَّةٍ قابِلَةٍ للتَّحويلِ إلى سياساتٍ عامَّةٍ. المطلوبُ ليس تغييرَ أفرادٍ، بل إعادةُ تكوينِ أغلبيَّةٍ نيابيَّةٍ ذاتِ وَظيفَةٍ إصلاحيَّةٍ سِياديَّةٍ واضِحَةٍ، تَحمِلُ برنامجًا تشريعيًّا مُحدَّدَ الأولويَّاتِ، وتَلتزِمُ بجدولِ تنفيذٍ زمنيٍّ، وتَحتكِمُ إلى معاييرِ الحَوكَمَةِ الرَّشيدَة والمواطنة الحاضنة للتنوّع.
في هذا السِّياقِ، تَبرُزُ أهمِّيَّةُ توفيرِ حاضِنَةٍ شَعبيَّةٍ سياسيَّةٍ ونيابيَّةٍ داعِمَةٍ لمسارِ التَّكامُلِ بينَ السِّيادَةِ والإصلاحِ. الحاضِنَةُ الشَّعبيَّةُ ليست عنصرًا تعبويًّا فحسب، بل شرطًا تشغيليًّا لاستدامَةِ السياساتِ العامَّةِ، إذ إنَّ أيَّ إصلاحٍ لا يَستَنِدُ إلى شَرعيَّةٍ تَمثيليَّةٍ صَلبةٍ يَتعرَّضُ سريعًا للتَّعطيلِ أو الالتفافِ. كما أنَّ أيَّ خيارٍ سِياديٍّ-إصلاحيٍّ لا يُدعَمُ بإجماعٍ نِيابيٍّ وازِنٍ يَبقَى عُرضَةً للاهتزازِ أمامَ الضُّغوطِ الدَّاخليَّةِ والخارجيَّةِ.
التَّشخيصُ الحاليُّ يُظهِرُ بوضوحٍ أنَّ أزمةَ لُبنانَ ليست أزمةَ نُصوصٍ، بل أزمةَ تطبيقٍ وإنفاذٍ. الدُّستورُ قائِمٌ، والالتزاماتُ الإصلاحيَّةُ مُحدَّدَةٌ، لكنَّ غيابَ سُلطةٍ نيابيَّةٍ مُنتِجَةٍ حَوَّلَ المؤسَّساتِ إلى هياكِلَ مُعطَّلَةٍ. من هنا، تَكْمُنُ وَظيفَةُ انتخاباتِ 2026 في إعادةِ الاعتبارِ إلى المَجلِسِ النيابيِّ كمساحةِ قرارٍ عامٍّ، لا كساحةِ تَوازُناتٍ عُرفيَّةٍ، وفي إعادةِ وصلِ السِّياساتِ العامَّةِ بالمسؤوليَّةِ الدُّستوريَّةِ.
إنَّ بناءَ دولةِ المواطَنةِ الدُّستوريَّةِ يَقتضي الانتقالَ من منطقِ إدارةِ الأزماتِ إلى ذاك القائِم على صُنعِ السِّياساتِ العامَّة المُستدامَة، ومن ثقافةِ التَّعليقِ إلى ثقافةِ الإنفاذِ. هذا الانتقالُ لا يَتحقَّقُ بخطاباتٍ عامَّةٍ، بل بإعادةِ تشكيلِ السُّلطةِ التَّشريعيَّةِ على قاعدةِ برنامجٍ إصلاحيٍّ سِياديٍّ مُتكامِلٍ، يَضعُ حَصرَ السِّيادَة بيدِ الدَّولةِ، واستقلالَ القضاءِ، وإعادةَ هيكلةِ الماليَّةِ العامَّةِ، واستعادةَ الثِّقةِ الاجتماعيَّةِ، ضمنَ أولويَّاتٍ قابِلَةٍ للقياسِ والمُتابَعَةِ.
لبنانُ في عامِ 2026 أمامَ واقِعٍ يَفرِضُ حسمًا دُستوريًّا. إمَّا سلطةٌ نيابيَّةٌ مُنتِجَةٌ تُفعِّلُ التَّكامُلَ بينَ السِّيادَةِ والإصلاحِ، وإمَّا استمرارُ إنعِدام وزن وما يَستتبِعُهُ من شَلَلٍ مُزمنٍ. هذا ليس استشرافًا للمُستقبَلِ، بل تشخيصٌ لِحاضِرٍ يقتَضي قرارًا عامًّا واضحًا، عنوانُهُ قِيام دولةُ المواطَنةِ الدُّستوريَّةِ كخيارِ كياتيّ لا بديلاً عنه. هكذا نحمي الصِّيغة والميثاق.