بقلم الدكتور جورج شبلي
٥ تشرين الثاني ٢٠٢٥
في لبنان، تعود إلى الواجهة قضية اقتراع المنتشِرين، في كلّ مرّة يقترب موعد هذا الاستحقاق الدّستوري المُلزِم. وفي كلّ مرّة، أيضًا، ينقسمُ الأفرقاء بين مدافِعٍ عن هذا الحقّ اقتناعًا به، واندفاعًا لترسيخ العلاقة بين المنتشِرين والمقيمين، باعتبار أنّ المنتشِرين هم مواطنون يتمتّعون بما للمقيمين من حقوق، ومعارِض مندفِع الى هذا الموقف دفاعًا عن مصالح شخصية معروفة لا تمتّ الى المصلحة العامة بصِلة.
قبل المباشرة في التّركيز على الجريمة التي ارتكبها البعض في حقّ الاقتراع للمنتشِرين، لا بدّ من الإشارة الى أنّ هؤلاء كانوا أوّل مظهر عالميّ للبنان، ونشروا دعوة هذه الأرض في بقاع الدّنيا. فالوطنُ، في عمق العصب المهجريّ الحادّ، هو دِين يؤمن به أهل المُغترَبات في طاعةٍ وخشوع، وقد كانت له في وجدانهم سُنَنٌ وروابط لم يقطع رأسَها نَصلُ البُعد. إنّ الحنين، عند المنتشِرين، خبزٌ صلب العود، وتأمُّلٌ في قضيّة منفتحة على أرجاء الكَون، من هنا، تفلّتَت علاقة المَهاجرة بالوطن من قمقم الزمان والمكان، فامتدّ لبنان، معهم، الى مدًى شموليّ كَوَّنَ، بحَدّ ذاته، عالَمًا.
إنّ الذين يحاولون مصادرة قرار الوطن، إذ يحرمون المنتشِرين من الاقتراع، كالمقيمين، لِـ 128 نائبًا، يبدو أنّ سلوكهم، لكثرة ما فيه من تخبّط، ولقلّة ما فيه من وطنيّة، ينفّذ مخطّط تشويه العلاقة بين لبنان والاغتراب، بل يدعو الى إضرام جريمةٍ نكراء خبيثة، وهم، بذلك، يحاربون الحقّ، ويُسهمون في تغليب الباطل. والحال أنّ فهمهم لآليّة الديمقراطية هو أكثر من هرطقة، فأنهم يجهلون عقيدتها، ويزيّفون الغاية منها، ويُأوّلون ماهيّتها تأويلًا فاسدًا، ليتأمّن، لديهم كلّ عناصر التّزوير، مطعَّمةً بالخُطَب السّوداء التي تنغّصُ هدأةَ المَهاجرة، فبدلًا من إشاعة طمأنينة يتمدّد فوقها احتياطيُّ الأمل، لدى المنتشِرين في أصقاع العالَم، بالمشاركة في الانتخابات، وهذا ليس من باب الصَّدَقة، تنتابهم، بسبب السلبية المتسلّطة للذين يريدون أن يبقى لبنان في دائرة النّار، مشاعرُ الغَصَص، لأنّهم يشعرون بأنّ غربتَهم المؤلمة مزدوجة.
إنّ الذين عانوا وطأة الهجرة، هم على قَيد الوطنيّة، انتماءً وولاءً، أكثرَ من كلّ المُرائين الذين يمارسون الدَّجَل الوطني، فالمَهاجرة لم يغمر قلوبَهم سكونُ البُعد، ولم يتقاعدوا عن الاهتمام ببلدهم، أينما كانوا في دول الخليج الشقيقة، أم في قارات المسكونة، نضالًا دبلوماسيًّا وسياسيًّا دعمًا لقضيّة لبنان، وتزويدًا بحوالات المال للتخفيف من المأساة الاقتصادية الموجعة بجَعلِ العُسرِ يُسرًا… لقد نظر المَهاجرة الى الوطن نظرة تقديس، وكان شوقهم إليه أكبر من شوقٍ الى أهلٍ، وتراب، وهواء… بل الى غبطةٍ وبهجة، ومحبّة تربطُ كلّ ما في السّماء بكلّ ما على الأرض… إنّهم، حقًّا، قَناصلُ بلا مرسوم، يبنون جسورًا لتمتين علاقات المغتربات مع الوطن الأمّ.
إنّ التّقصير المتعمَّد لدى بعض القيّمين المعروفين في لبنان، في مسألة الانتخابات على صعيد اقتراع المنتشرين، هو سلوك غير بريء، لأنّهم يعارضون، وبقساوة غير مسبوقة، البند الأساسيّ الذي ينبغي أن يُعَدَّل لأجله قانون الانتخاب، تمكينًا للبنانيّين الموجودين خارج بلادهم بالمشاركة الصحيحة والعادلة، اقتراعًا يعيد الأهميّة القانونيّة للمعطى الانتخابي، ويعرّي أهداف المتسلّطين المشبوهة أولئك الذين يريدون تأبيد إمساكهم بالحكم، وبمؤسّسات القرار.
معروفٌ، تمامًا، أنّ الانتخابات المقبلة سيكون لنتائجها مذاق خاص، إذا شارك المنتشرون بالاقتراع لـ 128 نائبًا، كالمُقيمين بالذّات. فلسوف تتبدّل النتائج، والتوازنات، وأركان الحكم، ما يؤدّي، حتمًا، الى الإطاحة بالذين وضعوا العراقيل ليبقى المنتشرون خارج المعادلة الداخلية، بحذفهم من جغرافيا الوطن. وفي حال ممارسة المنتشِرين حقَّهم كالمقيمين، يعود صمّام الأمان الى الوطن، ويتبوّأ السلطة طاقاتٌ تجعل البلاد حيثيّة قابلة للحياة.
إنّ إهمال حقّ المنتشرين بالاقتراع، كالمقيمين، شِفارٌ تُمزّق الرّابط بين الخارج والدّاخل، وأَبطالُ هذه الجريمة عصبةٌ من البربر المنقادين الى نزعاتٍ ذاتيّة بعيدة عن الحسّ الوطنيّ، قوامها الاستئثار، والطّمع، والتحكّم بالقرار، واستباحة الحقوق، وممارسة الإقصاء، بأسلوبٍ آثِم، مخزونُه شرّ، واستبداد، واستقواء، وكِفرٌ أعوَج. ولكن، فَليَعلمْ مَنْ يعاشرون الشّياطين، متضرِّرو الدّاخل، بأنّ المنتشِرين هم ” مِنّا “، ينتسبون الى معشرنا، وضِلعُهم معنا، وحضورُهم فينا مُشَرَّبٌ بأنفاس الحنين، وقضيّتهم التزامٌ لنا لن يَرضخ، وحقّهم بالاقتراع هو حقٌّ كيانيّ لن يُقهَر، ويجب انتزاعه بأيّ وسيلة. أمّا الطّارئون الذين يقع كلامهم في المَهاجرة نَهبًا واختلاسًا، ولونًا من ألوان العَبَث، وتَنَكّرًا لحقّهم الوطنيّ، فهم ناقِصو المروءة، والكرامة، والشَّرف الوطني… ولبنان لهم بالمرصاد.
