
بقلم: إبراهيم داغر
١٨ تشرين الثاني ٢٠٢٥
ماجستير في الإدارة العامة (جامعة هارفرد)
إجازة في الاقتصاد (جامعة نورث إيسترن)
أكاديمي وباحث لبناني-شغل سابقًا مناصب أكاديمية وإدارية في جامعة هارفرد، بينها مدير مساعد في معهد الشرق الأوسط في كلية كينيدي للسياسات الحكومية ومدير مساعد في مكتب البحوث المموّلة.
للتواصل idagher@post.harvard.edu
مقدّمة
يزداد التلميح في لبنان في الآونة الأخيرة من قِبل بعض الأطراف حول مسألة “تصحيح الخلل” في تمثيل الطوائف داخل الدولة، وضرورة “إنصاف” الطائفة الشيعية تحديداً. ويعتبر ھؤلاء ان التصحیح یجب ان یكون دستوریاً، ویصل إلى القضاء على مبدأ المناصفة القائم بین المسیحیین والمسلمین، وفقاً لاتفاق الطائف، لصالح مبدأ المثالثة بین المسیحیین والسنّة والشیعة.
ويبدو، مع مرور الوقت، بأنّ تعنّت حزب الله في شأن تسلیم سلاحه إلى الدولة لم یعد متعلّقاً بمواجھة إسرائیل، بقدر ما ھو متعلّق بتثبیت المثالثة دستوریاً، وھو ھدف یستأھل المقایضة بالسلاح لتحقیقه. وما تطمینات أمینه العام مؤخّراً لإسرائیل والسعودیة على حدّ سواء الّا برھاناً على ذلك.
ويأتي ھذا الخطاب لیعكس المشروع الإیراني الجدید المتأقلم مع الخسائر المیدانیة لمحور الممانعة، ومفاده أن تُركّز الأذرع في المرحلة المقبلة لیس على تحقیق ردع إستراتیجي ضدّ إسرائیل، بل لاكتساب انتصارات سیاسیة داخلیة حیث تنشط، وخاصّة في العراق وفي لبنان.
وربّما تعتقد إیران بأنّها قادرة على إقناع السعودیة بمشروع المثالثة في لبنان لأنّه — في نظر إیران — یحقّق مكسبین كبیرَین للمملكة، وھما تعزیز النفوذ السنّي في الدولة اللبنانیة من خلال المثالثة، وكذلك تسلیم سلاح حزب ﷲ للدولة الذي سیأتي ثمناً لتحقیقھا.
يدور كل ھذا النقاش اليوم في ظلّ سردیة يُسوّقها أتباع إیران في لبنان عن “مظلومیة شیعیة” تبرّر إعادة توزیع الصلاحیات وتعدیل الدستور. لكنّ السؤال الأھمّ الذي یجب طرحه قبل الدخول في أيّة سردیة ھو: أین یكمن النفوذ الحقیقي داخل الدولة اللبنانیة؟ ھل ھو في توزیع الرئاسات الثلاث طائفیاً، أم في كیفیة توزیع السلطات الدستوریة الثلاث (التنفیذیة والتشریعیة والقضائیة) ومَن یمسك عملیاً بمفاصلھا؟
للإجابة عن ھذا السؤال، لا بدّ من التمییز بین ما اصطُلح على تسمیته “ترویكا الرئاسات” في لبنان، (التي أنتجها الاحتلال السوري)، وبین “ترویكا السلطات” التي تقوم علیھا الدول الحدیثة.
ترویكا الرئاسات مقابل السلطات الحقیقیة
ترسّخت في الحیاة السیاسیة اللبنانیة فكرة أنّ رئیس الجمھوریة ورئیس الحكومة ورئیس مجلس النواب یشكّلون (من خارج الدستور) ثلاث قمم متوازیة، أو ثلاثة رؤوس تتشارك (او تتقاسم) إدارة الدولة. إلّا أنّ ھذه الصیغة لیست سوى ترتیب طائفي نتج عن أعراف مجتمعیة وتفاھمات سیاسیة لا تمتّ بصلة إلى طبیعة السلطات في الأنظمة الحدیثة.
وقد تطوّرت هذه الأعراف لتشمل مفاهيم مُستحدثة، كالميثاقية، والديمقراطية التوافقية. هذه المفاهيم، التي يُفترض بها نظرياً حماية الشراكة بين المكوّنات، تحوّلت عملياً إلى أداة لفرض الفيتو الطائفي، وتعطيل الإرادة الوطنية، حيث يتطلب اتخاذ القرارات إجماعاً مستحيلاً، مما يخدم مصالح الأطراف الممسكة بمفاصل التعطيل، ويحول دون بروز سلطة تنفيذية فاعلة.
أمّا في الأنظمة الحدیثة، فلا تُقاس السلطة بھویة شاغلھا، بل بطبیعة الوظیفة الدستوریة التي یمارسھا. وھكذا تقوم الدولة على ثلاث سلطات واضحة:
- السلطة التنفیذیة التي تحكم وتنفّذ السیاسات.
- السلطة التشریعیة التي تشرّع وتراقب الأداء الحكومي.
- السلطة القضائیة التي تفسّر الدستور وتضمن سیادة القانون.
ھذه “الترویكا الحقیقیة” ھي الضامن للاستقرار، وتبادل الرقابة، وبناء المؤسسات. وغیابھا أو اختلالھا یؤدّي مباشرة إلى العرقلة والتعطیل والانھیار، وخیر دلیل على ذلك ھو لبنان.
ففي لبنان خَلقت ترویكا الرئاسات قشرة شكلیة تُظهر ثلاث رئاسات، بینما تخفي واقعاً مریراً وأكثر تعقیداً خلاصته:
- سلطة تنفیذیة برأسین تتجاذبھا الخلافات وتكاد لا تستقرّ أبدا.
- سلطة تشریعیة مقیدّة وشبه مستقرّة بید واحدة.
- سلطة قضائیة مفترضة دستوریاً، ولكنّها عملیاً منقوصة ومُستتبعة بالسياسة، لا بالمؤسسات.
نتیجة ذلك، أصبحت الترویكا اللبنانیة عقبة أمام بناء مؤسسات فعّالة، ومانعاً ذاتیاً لأي إصلاح حقیقي. فھي لا تؤمّن التوازن، ولا تنتج الاستقرار، بل تستخدم العرقلة وسیلة، والتأخیر اسلوباً، والتعطیل طریقةَ حیاة.
سلطة برئیسین ورئیس بسلطتین
١. الرئاسة المارونیة والرئاسة السنّیة: مشاركة في السلطة التنفیذیة
على الرغم من أنّ الدستور یوزّع بعض الصلاحیات بین رئیس الجمھوریة ورئیس الحكومة، إلا انّهما یتشاطران في الجوھر سلطة واحدة فقط، وھي التنفیذیة. وھذه السلطة تعاني من شلل شبه دائم یعود لأسباب كثیرة منھا:
- الفراغات المتكررة والطویلة في رئاسة الجمھوریة.
- التعقیدات الطائفیة والمناطقیة والسیاسیة في تشكیل الحكومات.
- الفراغات المتكررة في وجود حكومات كاملة الصلاحیات بحیث تعیش البلاد في ظل حكومات تصريف أعمال لفترات طویلة جداً.
- تضارب التفاسیر حول الصلاحیات.
- ھشاشة موقع رئیس الحكومة في ظل التجاذبات السیاسیة.
كل ذلك یجعل السلطة التنفیذیة ضعیفة وعرضة للتعطیل المتكرّر، ممّا یحدّ من قدرتھا على فرض السیاسات العامة، أو حتى إنتاج الاستقرار لمواطنیھا بالحدود الدنیا.
٢. الرئاسة الشیعیة: إمساك بالسلطة التشریعیة وجوھر السلطة القضائیة
يمسك رئیس مجلس النواب بالسلطة التشریعیة منذ عام ١٩٩٢ بطرق أقلّ ما یقال فیھا أنھا لا تحترم الممارسة الدیمقراطیة، ولا تراعي المفاھیم الحدیثة للعمل البرلماني الشفّاف. ھذه الھیمنة الطویلة الأمد تقوم على الكثیر من الارتجال والاستنسابیة، وتعتمد وسائل كثیرة من بینھا:
- التحكّم بجدول أعمال المجلس.
- التفرّد في فتح الجلسات وإقفالھا.
- إغلاق مجلس النواب لمدد طویلة.
- إدارة آلیات التصویت بأشكال مبھمة.
- ضبط المھل الدستوریة انتقائیاً.
- التفرّد بطرح القوانین أو تجميدها.
لكن النفوذ التشریعي للرئاسة الشیعیة لا يُظهّر الصورة الحقیقیة لمدى نفوذھا الفعلي. فالجزء الآخر — وھو الأكثر خطورة على توازن السلطات — ھو إلحاق تفسیر الدستور بالمجلس النیابي بدل أن یكون بید سلطة قضائیة مستقلة، مما یجعل من المجلس النیابي نظریاً، ورئیسه فعلیاً، حَكماً وطرفاً في آن واحد، وهذا أمر في غایة الخطورة لا ینبغي أن یستمرّ إذا كان لبنان یطمح في الوصول إلى مصاف الدول الحدیثة.
أمّا المجلس الدستوري، فدوره محدود للغایة: فھو ھیئة محاصصة لا تتحرك من تلقاء نفسھا، وھو لا یملك صلاحیات المحاكم الدستوریة العلیا في الدول الحدیثة، ولا یمارس الفصل النھائي في النزاعات الدستوریة بطریقة مجرّدة وحاسمة. علاوة على ذلك، لا يقتصر الاختلال على المجلس الدستوري فحسب، بل ينسحب على رأس الهرم القضائي نفسه. فمجلس القضاء الأعلى، المسؤول عن تعيين القضاة وترقيتهم وتأديبهم، يقع عملياً تحت وطأة التوازنات الطائفية والتدخلات السياسية، بحيث يتم توزيع أعضائه في الكواليس لضمان توازن القوى الحزبية. وهذا يضمن أن السلطة القضائية —بدلاً من أن تكون سلطة مستقلة ضامنة لسيادة القانون— تظل مُلحقة بالنظام السياسي ومخترقة من قِبل الأطراف المتنفذة، ما يحول دون أيّة مساءلة حقيقية.
وفي الخلاصة، باتت الرئاسة الشیعیة عملیاً ممسكة بسلطتین: التشریعیة بشكل شبه كامل، والقضائیة إلحاقاً عبر التحكم بتفسیر الدستور. بينما تتشارك الرئاستان الأخریان في سلطة تنفیذیة واحدة تعاني التعطیل المتكرر.
العوامل الإضافیة في “طبشة” میزان التأثیر
إلى جانب اختلال توزیع السلطات، ھناك عناصر أخرى تعزّز بشكل واضح نفوذ الثنائي الشیعي داخل الدولة:
١. الفیتو المالي
یبدو كأن وزارة المالیة قد تكرّست، بالعُرف، لوزیر شیعي كأمر واقع ومستدام، وقد تحوّلت ھذه الوزارة إلى مركز تأثیر یتیح تعطیل أو تمریر الموازنات، والاتفاقیات المالیة، والصرف، والمراسیم الأساسیة. وقد بات توقیع وزیر المالیة “شرطاً إلزامیاً” في العدید من القرارات المحوریة، ما یجعل من “الفیتو المالي” أداة نفوذ سیاسي حقیقیة لا یتمتّع بھا أي طرف آخر.
٢. السلاح غير الشرعي
ما زال حزب ﷲ يمتلك قوة عسكریة مستقلة عن الدولة، وھذا عنصر أساسي في اختلال موازین القوى بین المكوّنات اللبنانیة یؤثّر في قرارات الحرب والسلم والتفاوض مع الأطراف الخارجیة والسیاسات العامة. هذا النفوذ النوعي یضُاف إلى العناصر الأخرى لیخلق واقعاً سیاسیاً لا یتمتع به أي مكوّن لبناني آخر.
خاتمة: نحو الانتقال من “المظلومیة” إلى الدولة القادرة
عند مراجعة الصورة كاملة — ترویكا رئاسات شكلیة، سلطة تنفیذیة ضعیفة، سلطة تشریعیة ممسوكة، سلطة قضائیة ملحقة، مجلس دستوري مُقـيّـد، فیتو مالي، وسلاح خارج الدولة — یتبیّن أنّ میزان التأثیر الحقیقي في لبنان یمیل بوضوح لصالح القوى السیاسیة الشیعیة، خلافاً لسردیة “الحرمان” التي تتردد بكثرة.
وعلیه، فإصلاح الدولة لا یبدأ من إعادة توزیع الحصص الطائفیة ودسترتھا، بل من:
- إعادة بناء السلطات واستقلالھا بعضاً عن بعض.
- إلغاء الأعراف المناقضة نصّاً وروحاً لاتفاق الطائف.
- تفعیل السلطة القضائیة لتصبح مستقلة تماماً وموازیة للسلطتین التشریعیة والتنفیذیة.
- حصر السلاح بید الدولة.
- تمكین المؤسسات من العمل خارج الاصطفافات.
- التخلي عن خطاب “المظلومیة الطائفیة”، ومعالجة “مظلوميّة الدولة” غير القادرة.
فالدولة القادرة وحدھا تحمي الجمیع، وتوفّر شروط الاستقرار، وتنقل المواطن إلى المواطنة، حيث يصبح شریكاً في المجتمع، لا مجرّد رقم في حصّةٍ طائفیة.